الخاطرة 476:
“وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ”. هذا قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه متاركا لهم بعد أن أنجاه الله من النار، قاله واثقا من هداية ربه في هجرته فرارا بدينه، فهي أول هجرة لحفظ الدين، وعبادة رب العالمين، ومثله قوله: “إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ”، وقول موسى عليه الصلاة والسلام: “قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ”. يخطر ببال من يفارق أهله خاطر التفرد والعزلة التي لا يشعر بها بين أظهرهم، فسأل ربه أن يهب له ولدا يؤنسه في الوحشة، ويعوضه في الغربة، فقال: “رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين”، فكانت الاستجابة سريعة: “فبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ”، وإذا تأخر ظهور المطلوب؛ فإن العيش على أمل حصوله يقوم مقامه . ووصف الغلام بالحلم مناسب لما كان عليه من الصبر والاستسلام لله حين بلغه خبر ذبحه، فوض الأمر إلى والده كما قال تعالى: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين”. ودل الوصف على أنه يعيش إلى أن يكون صالحا للاتصاف بالحلم، وأوانه قوله سبحانه: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ”، وهو الزمان الذي شارك فيه أباه أعماله، ووصف الله إسحاق في موضعين بالعلم: “وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ”. والغلام الذبيح هو إسماعيل، والسياق دال عليه، فإن الله ذكر تبشير إبراهيم بإسحاق بعد تبشيره بالغلام الحليم، والعطف يقتضي المغايرة: “وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ “، ومنها أن إسحاق بشرت به زوجه في سورتي هود والحجر، قال تعالى: “وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب”، ومنها أن الله امتن على إبراهيم وزوجه بولادة يعقوب من إسحاق، فكيف يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق، وقد بشر بمن سيولد له؟، فلو كان الذبيح هو إسحاق لبطلت حكمة الابتلاء . لكن لم يسم الذبيح باسمه كيلا يصرف الاهتمام عن الغرض من سوق القصة وهو الاحتجاج على بني إسرائيل بما كان عليه إبراهيم من التوحيد الذي يزعمون أنهم على ملته وهم على النقيض منها. وفيه عبرة لكل من يشغل الناس عما ينبغي أن تحشد جهودهم وطاقاتهم له بما هو دونه، مع أن الحق لا يفرط فيه، لكن من الحق أن يعطى كل شيء حقه ومنزلته . وقد قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله عن هذا الأمر: “وقد أشارت هذه الآيات إلى قضية الذبيح ولم يسمه القران، لعله لئلا يثير خلافا بين المسلمين وأهل الكتاب في تعيينه، وكأن القصد تأليف أهل الكتاب لإقامة الحجة عليهم في الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتصديق القرآن، ولم يكن ثمة مقصد مهم يتعلق بتعيين الذبيح، ولا في تخطئة أهل الكتاب في تعيينه، وأمارة ذلك أن القرآن سمى إسماعيل في مواضع من قصة الذبح، وسمى إسحاق في مواضع، ومنها بشارة أمه على لسان الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط، وذكر اسمي إسماعيل وإسحاق أنهما وهبا له على الكبر، ولم يسم أحدا في قصة الذبح قصدا للإبهام مع عدم الفوات في المقصود من الفضل، لأن المقصود هو التنويه بشأن إبراهيم فأي ولديه كان الذبيح كان في ابتلائه بذبحه وعزمه عليه وما ظهر في ذلك من المعجزة تنويه بشانهة”، انتهى ببعض اختصار . قلت لا إبهام فقد عينه القرآن كما عرفت بطريقة لا تثير الخصم ولا تشوش على المقصود من القصة، وليس حتما في بيانك الحق المجابهة والصدام كما عليه فئام من الناس . ثم الآية التي صدرت بها هذا المنشور هي بداية الحصة 522 من حصص (قبسات من القرآن الكريم)، شرعت في إلقائها قبل خمس عشرة سنة في إذاعة القرآن الكريم، وقد سعى في إحداثها وبثها فيها أحد ضباط الجيش الوطني الشعبي وهو الأخ موفق بوسدرة رحمه الله، وكان إسهام مشكور في دعم هذه القناة، كانت الحصة تسجل في إذاعة بلعباس وتذاع فيها وفي قناة القرآن، ثم انتقلت إلى إذاعة سعيدة . وقد توافق تسجيلها بمكة مع عيد الأضحى هذه السنة 1444، وللأضحية صلة بما فدى الله به إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وكثيرا ما حصلت هذه الموافقات لي في مدارسة الكتب، يعرفه من لازمها من إخواني . ومن أعظم ما تحسرت عليه تفريطي في صرف الجهد الى تدبر كلام ربي وتفهمه، ومنه تركي تحرير هذا الذي ألقيت كي يكون صالحا للنشر بالتفريغ، صرفني عنه اهتمامي بالقريب الذي يصلح أن يخاطب به العوام، وهم معظم من يستمع إلى الإذاعات المحلية، والعلم يضيع بالنزول إلى فهومهم والإسفاف باستعمال الألفاظ الدارجة، فيفوت ذكر الفوائد والنكت والأصول اللغوية والبلاغية والتربوية وأساليب الدعوة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
مكة في 12 من ذي الحجة 1444
بن حنفية العابدين