الخاطرة 16

المشرف 261

الخاطرة 16: النعمة هي الحالة الحسنة التي يكون عليها العبد بما يمن الله تعالى به عليه من المال والولد والعيش والعلم والحلم والصبر وغير ذلك، وهي كثيرة لا تحصى، منها الظاهر الذي يعرفه الناس ويرونه، ومنها الباطن الذي لا يعرفونه، أو يتفاوتون في معرفته، كما قال الله تعالى: “وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة”، وقال: “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”، ومعظم النعم ينساها الناس بحكم الاعتياد فلا يتفطنون لها إلا إذا افتقدوها . ومن النعم ما يعده الناس ضرا وشرا، وهو نفع وخير، كما قال الله تعالى: “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون”، وقال: “فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا”، فما كان من هذا القبيل تكليفا كان المطلوب حمل النفس عليه، ومجاهدتها على التزامه، وهذا معنى التكليف لأن فيه كلفة تقوى بابتعاد النفوس عما فطرت عليه، وما كان من غير هذا فعلاجه هو الصبر عليه بعد التوقي ومراعاة سنن الله في خلقه . وقد تميزت سورة الرحمن عن غيرها بافتتاحها باسم الله الرحمن، وبالتعقيب على النعم المذكورة فيها واحدا وثلاثين مرة هكذا: “فبأي آلاء ربكما تكذبان”، والآلاء جمع ألي هي النعم، وهي كلها من رحمة الله العامة بخلقه، أو من رحمته الخاصة بالمتقين من عباده . وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه السورة: “لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم: كنت كلما أتيت على قوله: “فبأي آلاء ربكما تكذبان”؛ قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد” . والمقصود هل من جملة النعم قوله تعالى: “كل من عليها فان وببقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام”؟، وما جاء بعده من قوله تعالى: “كل يوم هو في شأن”، و”سنفرغ لكم أيها الثقلان”، ومن انشقاق السماء، وعقاب المجرمين، وغير ذلك؟ . يقول بعضهم إن ذلك التعقيب تكرير، لأن الفناء ليس نعمة!!، ويقول آخرون: إن الآلاء في هذا ومثله هي قدرة الله تعالى على فعل ذلك، والحق أن ذلك من أجل النعم، والأمر في بعضها ظاهر، أما الفناء فمقدمة لا بد منها، به يستوي الخلق في الموت، ويظهر به المحق من المبطل، وينقلب هذا بالثواب، ويبوء الآخر بالعقاب، ويرى المؤمنون ربهم، ويمتاز المجرمون، ويعرف المنافقون، وتبلى السرائر، ويتسلى به المظلوم المحزون، ويشمل العدل الإلهي المكلفين كلهم، وكيف لا يكون نعمة وبه تنتهي الدنيا، وهي سجن المؤمن وجنة الكافر؟.

الخاطرة 14

المشرف 229

الخاطرة 14: يسر الله تعالى لعباده ما تقوم به حياتهم، فجعله في متناولهم، من ذلك الماء والهواء والغذاء، وفي الحديث: “المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار”، وقد قال بعض أهل العلم أن هذه الثلاثة لاتملك، هي قدر مشاع بين الناس، وقال الله تعالى: “هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا”، وقال: “وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه” . وهذا تقتضيه ربوبيته لخلقه سبحانه، فإنه رب العالمين، رباهم بنعمه، فهم فيها مشتركون، فرزقهم عليه، وإن تفاوتوا في تحصيله، كما قال: “وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها”، وقال: “وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم”، وقال: “وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين”، وقال: “وما كنا عن الخلق غافلين”، فتبارك الله أحسن الخالقين . وإذا كان هذا هو الحال فيما تصلح به أجسامهم وتقوم به حياتهم الفانية فأولى أن يكون ذلك فيما يسعدون به السعادة الأبدية الخالدة، فإنه في متناولهم لا يتفاوتون فيه تفاوتهم في حظوظ الحياة، إلا من تولى عن ذكره . ومن مظاهر هذا التيسير أنه فطرهم على معرفته والتسليم والإذعان له، وكان ذلك كافيا في مؤاخذتهم على ترك توحيده، كما قام الدليل عليه، لكنه مع ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوى في أنفسهم ما فطروا عليه، أو لردهم إليه إن هم خرجوا عنه باجتيال الشياطين، وتفريط المربين، وتأثير المحيط، ثم ليبين لهم تفاصيل ما تقتضيه تلك الفطرة، فأعذر إليهم وقامت عليهم الحجج . ومن تيسير أسباب الفلاح لهم أنه شرع لهم هذه الكلمة الطيبة كلمة التوحيد التي من قالها والتزم معناها كان من أهل السعادة، ومن نطق بها خالصا من قلبه دخل الجنة، ومن قالها نفعته سوما من دهره . ومن ذلك أن أعظم جزأي الدين وهو العقيدة اختصه الله بكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحجب عنه القياس والنظر والرأي والتعارض الذي هو أعظم أسباب الاختلاف في العمليات، فكانت العقائد لا تقبل إلا وجها واحدا، وبهذا تكون بمعزل عن الظنون والتنفل والاضطراب، لا تفتقر نصوصها بعضها إلى بعض، بل كل نص منها مستقل الدلالة على مدلوله، وهذا الأمر هو الذي التزمه الصحابة ومن ساروا على نهجهم، فسلم لهم ركن دينهم الأعظم، فكان فهمهم أعلم وأسلم وأحكم .

الخاطرة 12

المشرف 246

الخاطرة 12: إعفاء اللحية من سنن الفطرة العشرة، قرنت بقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط والاستحداد والختان والسواك واستنشاق الماء والمضمضة وغسل البراجم . ومعنى أنها من الفطرة أن الطباع السليمة تميل إليها وتقتضيها، ولأن اللحية مختصة بالرجال، وقد قال أبو بكر بن العربي رحمه الله عن سنن الفطرة: “والذي عندي أن جميعها واجب، وأن من تركها لم يكن من جملة الآدميين، فكيف بجماعة المسلمين”؟!!. ومن الأمثال الشعبية التي تدعو إلى الباطل، وما أكثرها “اللي غلبك زين، اغلبه تحسان”، ومعناه أن من فاقك جمالا فتفوق عليه بحلق لحيتك!!، وقد فشا فينا حلق اللحى وانتشر بعد دخول الاستعمار الفرنسي، واستقرت عليه عادات الناس، حتى إنك لترى من هو معروف بالفضل والعلم يحلق لحيته، أو يقصرها، ولا يترك منها إلا يسيرا يظهر الجلد من تحته !!، ويترك بعضهم شيئا من الشعر في منطقة مجمع لحييه وهو مثلة . ولما عاد بعض الناس ولاسيما الشباب إلى الأصل أصبح يطلق عليهم أصحاب اللحى، ثم صار هذا الوصف مقرونا بالانتماء إلى توجه حزبي معين، فلما جاء عهد التعددية الحزبية تماشيا مع انهيار الأنظمة الاشتراكية والشيوعية وحصلت الفتنة في تسعينيات القرن الميلادي الماضي اختلط على الجهات الحاكمة الحابل بالنابل !!، فعاملت الناس على وفق ما حذر منه المتنبي في قوله: أعيذها نظرات منك صادقة*** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم *** وما انتفاع أخي الدنيا بناظره *** إذا استوت عنده الأنوار والظلم ؟!! . ومما تذكرته أن أول اجتماع عقده وزير التعليم الأصلي والشؤون الدينية مولود قاسم رحمه الله سنة 1975 غداة التقسيم الإداري للبلاد الى 31 ولاية لم يكن فيه أحد يعفي لحيته غيري حتى رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ونائبه يومئذ رحمهما الله، وكان مولود قاسم يتندر بذلك فيقول لي: شيخ الشيوخ !! . وقد قلت للشيخ علي شنتير: لم لا تعفي لحيتك؟، ونحن في ملتقى الفكر الاسلامي المنعقد بالأوراسي، فقرأ علي هذا البيت: لا تخدعنك اللحى ولا الصور *** تسعة أعشار من ترى بقر”، وشاء الله تعالى أن نلتقي بعد عام في المكان نفسه، فإذا هو قد أعفى لحيته، فذكرته بذلك البيت، فقال لي أنا من العشر . ثم جاء العهد الذي اشترط فيه أن لا يحصل أصحاب اللحى على الجواز فقابلت منسق مصالح الأمن بالولاية وذكرت له أن لحيتي قديمة!!، فقال لي: هذا قانون، فلما طلبت منه أن يرينيه أبى، وقال لي: لحى نتنة!!، فقلت له شمها لتعلم!!، فلما أصر على موقفه قلت له: “لو بقيت طول حياتي لا أتمكن من الخروج من بلدي ما حلقت لحيتي، كان المسكين يريد أن يجعلني قدوة في حلق الناس لحاهم . وقد قلت غير مرة لبعض من وظف في المساجد في مواضع خطرة إبان تلك الفتنة: احلق لحيتك قبل أن تلتحق بمنصبك لما كان يغلب على ظني أنه سيتعرض للمكروه، وما زلت إذا سألني عن ذلك من يريد أن يلتحق بالخدمة الوطنية على أن أنصحه بحلق لحيته قبل أن تحلق له، لما قد يعانيه بسبب ذلك من الأذى والتصنيف، وكثيرا ما يكون الملتحي أحرص على أمن بلده واستقراره أكثر من حرص غيره .

الخاطرة 15

المشرف 266

الخاطرة 15: قد أقول اليوم ما لم أعتد قوله حرصا على الدعوة لا انتقاما لنفسي، بعد هذا الصبر الطويل، والاستثناء يؤكد القاعدة . ترى هل يعرف الدعاة تفاصيل ما يفعله أتباعهم في أنحاء الوطن، ولاسيما في شماله من عنابة إلى مغنية، جراء كلامهم في غيرهم حقا كان أو باطلا؟ . إن معظم الأتباع من الدهماء والغوغاء، ولنفترض أنهم يسيئون الفهم فيسيئون الإجابة، فهل يجهل قادتهم هذا الذي يجري ؟. إن كانوا يعلمون ثم يسكتون ولا يقومون؛ فهي مصيبة، وإن كانوا لا يعلمون وهذا مستبعد فليستيقنوا أن تصرفات أتباعهم حزبية، فكيف يتهمون غيرهم بها، كما قيل: رمتني بدائها وانسلت؟ . إن هذا الذي نسمعه ونعيشه من تصرفات الأتباع يدل دلالة واضحة على أن المتبوعين الذين هم وراء هذه الأعمال إما أنهم نصبوا أنفسهم في منازل الحكام، قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، وإما أن أتباعهم نزلوهم هذه المنزلة في الأمور الدعوية، وهو أمر والله لا يحتاج إلى بيان: وليس يصح في الأذهان شيء ** اذا احتاج النهار إلى دليل!! . * ماذا يقال عن مسجد يكون عامرا بفئة معينة من المصلين فيجرح إمامه (جارح) فيخلو من المصلين عن بكرة أبيهم، فهل هذا أمر اتفاقي؟، كيف وهو يحصل في بلدنا منذ نحو العشرين عاما؟، والحال أن الحاكم قد لا يرتضي بعض الدعاة من الأئمة الموظفين عنده لكنه لا يمنع الناس من حضور حلقاتهم وهم منعوتون عنده بالوهابية كما يأفكون . * ومن الذي وراء عزوف الطلاب الذين تكتض بهم المدرجات في الجامعة في كليات معينة، فإذا خرج الأستاذ عن الخط الذي يرتضيه غيره وجد نفسه وحده، وقد كان من قبل لا يكاد طلابه يصلون إليه؟ . * ومن الذين هم وراء هؤلاء (الوكلاء) المنبثون في أرجاء القطر يتنطسون أخبار الناس ويترصدونها، ثم يبلغونها ثم يتلقون الأوامر فيقيمون التعليمات في أنفسهم فور صدورها، ويجدون في حمل الناس عليها بأساليب مختلفة لا يسع المقام ذكرها ؟ . * ومن يصدر الأوامر لهؤلاء ليعترضوا بطرقهم الخاصة السرية والعلنية على حلقات العلم وقد يشد أحدهم الرحال مئات الكيلومترات وربما ركب الطائرة أحيانا ليحذر من الاستماع إلى محاضرة أو دورة علمية يشرف عليها من هو غير مرضي عنه، وقد بلغ الأمر أحيانا المنع من إلقاء الدروس بالقوة، وربما بكروا إلى الصف الأول حتى إذا جاء المدرس نهضوا وخرجوا مغيرين (المنكر) بأفعالهم !! . * ومن ذا الذي أوحى إلى (هؤلاء) بالتميز عن الناس إما بمسجد بعينه، أو بحلقة في مسجد، أو بالانقباض والانعزال، أو بالتقطيب والعبوس والتجهم، وبالمقاطعة والهجران؟، فخرجوا على الأمة إن كان غيرهم قد خرج على حكامها، وقد قال رسول صلى الله عليه وإله وسلم: “هجر المؤمن سنة كسفك دمه” . * ومن ذا الذي يصدر الفتوى بمنع بيع كتاب معين أو بإتلافه، والحاكم لا يفعل هذا إلا في المعارض، ولا أذيع سرا إذا قلت أن هذا حصل لكتبي، وأكتفي بمثال واحد فقد صدر كتابي كيف نخدم الفقه المالكي وفيه نقد لاذع للوزارة التي كنت موظفا فيها، وعلم بذلك الوزير فما زاد على كلمة عابرة في مجلس أنا فيه، لكن أتباع هؤلاء تقربوا إلى الله بحرق نسخ منه قبل خمس عشرة سنة . وما الذي جعل بعض أهل العلم يسكتون هذه المدة الطويلة فلا ينهون عن الوقوع في أعراض أبنائهم وإخوانهم الدعاة وطلاب العلم الذين ينفعون الناس، حتى إذا حصل هذا الذي حصل انبروا ينصحون ويوجهون ؟ . ” هذا قليل من كثير، خبرته مدة تناهز العشرين سنة، فما هو بظنون، وقد ذكرت كثيرا منه في وقت كان هذا التوجه جنينا، وما جددت العهد بذكره بسبب ما لحقني من الأذى فقد اعتدته فصرت لا أبالي والله به، كما قال الآخر: فصرت إذا أصابتني سهام ** تكسرت النصال على النصال . ذكرته لما يغلب على ظني أن هذا المسار إن مضى على ما هو عليه مصحوبا بهذا الشحن الذي لا أتردد في تسميته طائفيا؛ سيفضي إلى مالا تحمد عقباه، فلينتبه الدعاة إلى هذه الأخطار المحدقة بالدعوة، وإذا تجردوا لخدمتها فنحن عون لهم وردء، لكنني أعود فأحذر وأذكر ما قاله الآخر: أرى خلل الرماد وميض نار ” ويوشك أن يكون له ضرام وإن النار بالعودين تذكى** وإن الحرب أولها الكلام !! . معسكر في السادس من شهر جمادى الثانية 1439 الموافق ل 22 فبراير 2018

الخاطرة 13

المشرف 252

الخاطرة 13: إيذاء الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير متنوع، قالوا عنه ساحر وكاهن وشاعر وكذاب ومجنون، ولمزوه بمختلف الأوصاف والقبائح، مع علمهم بأنه ليس كما يأفكون، كما قال الله تعالى: “أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون” . ومن العجب أن يأتي الجواب عن هذه الأباطيل بمثل قول ربنا عز وجل: “ما أنت بنعمة ربك بمجنون”، وقوله: “وما صاحبكم بمجنون”، وقوله: “وما هو بقول شاعر”، وقوله: “ولا بقول كاهن”، ومثل هذا رد نوح وهود عليهما الصلاة والسلام على أقوامهم: “ليس بي سفاهة”، “ليس بي ضلالة”، من منا يكتفي بنفي ما ألصق به من الباطل، ليطوي بساط الكلام، فإن زاد رد بالمثل متى كان ذلك حقا؟، كما قال الله تعالى: “ألا إنهم هم السفهاء”، “ألا إنهم هم المفسدون” . وقد ضاقت على الكفار أصناف الفرى وأضرب القدح، فارتبكوا واضطربوا، فلم يهتدوا إلى شيء يصفونه به، عسى أن يقنعوا به أنفسهم، فضلا عن إقناع غيرهم، وفي هذه الحال التي كانوا عليها قال الله تعالى: “انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا” . وقد استكثروا عليه أن يمشي في الأسواق، أو يأكل الطعام، وقالوا لولا أنزل عليه ملك، أو القي إليه كنز، أو كان له بيت من زخرف، أو جنة يأكل منها، ولم لا يرقى في السماء؟، وقد بلغ بهم الشطط أن تكون آية صدقه عندهم هي إنزال الحجارة عليهم، أو حلول العذاب الأليم بهم!!، فقال الله في ذلك: “وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم”، فأي حمق سكن عقول هؤلاء؟ . ومع كل هذه الأضرب من المكر والإيذاء، ما لانت له قناة، ولا فت في عضده، ولا صرف عن الدعوة إلى ربه، على أنه ربما ضاق بذلك صدره فجاءه أمر ربه بالصبر المقرون والاستكثار من طاعته وعبادته وذكره، فهذا خير ما يواجه به الافتراء، كما قال: “ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”، وقال: “واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون”، وقال بعد ذكر طائفة من دعاواهم ودحضها: “واصبر لحكم ربك فأنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم”، وقال: “فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها”، واستمر هذا المسلسل البغيض بعد الهجرة إلى المدينة على ألسنة غير تلك الألسنة، إنهم اليهود والمنافقون . ومن أغرب ما ابتكره أهل النفاق ما قال الله عنه: “ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن”، يريدون أنه يسمع لكل من جاءه يحدثه؛ لا يميز بين محق ومبطل، ولا بين صادق وكاذب، حتى كأنه آلة السمع نفسها!!، فلقنه الله الجواب مثنيا عليه، مبينا ما هو عليه من الرحمة بعامة الناس، والسعي في الخير لهم، ومعاملتهم بالظاهر، ولولا ذلك لكان مصير بعض شانئيه القتل، فقلب عليهم هذا الذي اتخذوه مطية استنقاص: “قل أذن خير لكم”، وهذا كما يقول أهل البلاغة أسلوب الحكيم الذي يعرض فيه المتكلم عن أهل السفاهة والضلالة، فيصرفهم عنها بحكمة، ويكشف لهم ما كان ينبغي أن يحمل عليه الأمر من المعاني الصحيحة والأخلاق الفاضلة، ولهذا قال: “يؤمن بالله”، فمصدر هذه المعاملة هو هذا الإيمان، وما يقتضيه من الرفق والإحسان والإعراض عن الجاهلين، “ويؤمن للمؤمنين”، فهم الذين يصدقهم فيما يسمع منهم، ورحمة للذين آمنوا منكم”، وهم الذين يؤذونه عسى أن يصلح حالهم ويدخل الإيمان قلوبهم . في هذا كله تسلية وعزاء لمن تعرض للأذى من أمته، فأبلغ ما يرد به وأنفع هو مصابرة الشانئين المستنقصين، والدأب على الاجتهاد في العمل الصالح، واحتساب الأجر عند الله، وتحري الحق في الرد إن كان، والابتعاد عن أن يجعل المرء ذلك أكبر همه ومبلغ علمه .

الخاطرة 11

المشرف 264

الخاطرة 11: ألفية ابن مالك من مصنفات النحو التي نفع الله بها الناس، ولم يحصل لكتاب في النحو مثل ما حظيت به من الذيوع والانتشار، وقد سماها صاحبها الخلاصة، لأنه انتقاها من نظمه الكبير المسمى بالكافية الشافية . ومما كان له أثر بالغ علي فأوليته الاهتمام في أثناء مدارستها؛ الأمثلة التي يجلبها لتوضيح القواعد، لقد كان فيها داعيا إلى الله بحق، يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره، حريصا على مكارم الأخلاق، ضاربا الأمثلة بالصحابة كأبي بكر وعمر، نافيا الاتباع إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يورد فيها مثالا يخرج عن هذا النهج، وهذا شأن العلماء الربانيين، هم دعاة إلى الله بأقوالهم وأفعالهم ومعاملاتهم وسلوكهم وبسمتهم ودلهم، ولا أشك أنه كان قاصدا هذا الذي ذكرته، وكل إناء بما فيه ينضخ، ولعل ذلك يقوم له عند الله مقام كثير من الكتب التي ألفها غيره في الدعوة وفي علوم الشرع . كيفما كان العلم الذي يتخصص فيه المسلم فلا يجوز له أن يعتبر نفسه غير معني بالدعوة إلى الله من خلال ذلك العلم، بخلاف ما عليه الأمر اليوم، فإن كثيرا من المسلمين الذين لم يعرفوا دينهم يحاربونه بالعلم الذي تخصصوا فيه أو نبغوا من حيث لا يشعرون . ولما رآني إخواني الذين يحضرون المجلس كلفا بهذه الأمثلة، تتبعها وجمعها، منهم الأخ الكريم الطيب بلبركاني . أول مثال فيها هو استقم، وكان يغنيه عنه أفعال أمر على وزنه كانتقم، واحتكم، واغتنم‘!! . ويمكن أن تجعل هذه الأمثلة أصنافا عدة، فمنها عن النساء “يرعن من فتن” -“ولم تكوني لترومي مظلمة” – وأبت هند الأذى – “نعم الفتاة” – “ولي بكا بكاء ذات عضله”- سيري والطريق مسرعه”، “ذا بنسوة كلف”، والمقام لا يتسع لهذا التفصيل، فلنكتف بالقليل . فمنها “فائز أولو الرشد” – “رجل من الكرام عندنا” – “أما أنت برا فاقترب” – “اعلم إنه لذو تقى” – “ألبسن من زاركم تسج اليمن” – “لا يبغ امرؤ على امرئ مستسهلا” – “لا تعث في الارض مفسدا” – “ما لباغ من مفر” – “مخلصا زيد دعا” – “إنك ابتهاجك استمالا” – ” من يصل إلينا يستعن بنا يعن”- “جد حتى تسر ذا حزن” – “للأيسر مل تكف الكلف”، رحم الله ابن مالك وجزاه عن المسلمين خيرا، وأين نحن في تدريسنا لعلوم الشرع منه في تأليفه في علم النحو ؟ .